فصل: ذكر انهزام الكرج من جلال الدين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، أول آب، جاء ببغداد مطر برعد وبرق، وجرت المياه بباب البصرة والحربية، وكذلك بالمحول، بحيث إن الناس كانوا يخوضون في الماء والوحل بالمحول.
وفيها سار صاحب المخزن إلى بعقوبا في ذي القعدة، فعسف أهلها، فنقل إليه عن إنسان منها أنه يسبه، فأحضره وأمر بمعاقبته، وقال له: لم تسبني؟ فقال له: أنتم تسبون أبا بكر وعمر لأجل أخذهما فدك، وهي عشر نخلات لفاطمة، عليها السلام، وأنتم تأخذون مني ألف نخلة ولا أتكلم؟ فعفا عنه.
وفيها وقعت فتنة بواسط بين السنة والشيعة على جاري عادتهم.
وفيها قلت الأمطار في البلاد، فمل يجيء منها شيء إلى سباط، ثم إنها كانت تجيء في الأوقات المتفرقة مجيئاً قريباً لا يحصل منه الري للزرع، فجاءت الغلات قليلة، ثم خرج عليها الجراد، ولم يكن في الأرض من النبات ما يشتغل به عنها، فأكلها إلا القليل، وكان كثيراً خارجاً عن الحد، فغلت الأسعار في العراق، والموصل، وسائر ديار الجزيرة، وديار بكر، وغيرها، وقلت الأقوات، إلا أن أكثر الغلاء كان بالموصل وديار الجزيرة. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وعشرين وستمائة:

.ذكر حصر الكرج مدينة كنجة:

في هذه السنة سارت الكرج في جموعها إلى مدينة كنجة من بلاد أران قصداً لحصرها، واعتدوا لها بما أمكنهم من القوة لأن أهل كنجة كثير عددهم، قوية شوكتهم، وعندهم شجاعة كثيرة من طول ممارستهم للحرب مع الكرج، فلما وصلوا إليها ونازلوها قاتلوا أهلها، عدة أيام، من وراء السور، لم يظهر من أهلها أحد، ثم في بعض الأيام خرج أهل كنجة ومن عندهم من العسكر من البلد، وقاتلوا الكرج بظاهر البلد أشد قتال وأعظمه، فلما رأى الكرج ذلك علموا أنهم لا طاقة لهم بالبلد، فرحلوا بعد أن اثخن أهل كنجة فيهم. {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً} الأحزاب: 25.

.ذكر وصول جلال الدين بن خوارزم شاه إلى خوزستان والعراق:

في أول هذه السنة وصل جلال الدين بن خوارزم شاه محمد بن تكش إلى بلاد خوزستان والعراق، وكان مجيئه من بلاد الهند، لأنه كان وصل إليها لما قصد التتر غزنة، وقد ذكرنا ذلك جميعه، فلما تعذر عليه المقام ببلاد الهند سار عنها على كرمان، ووصل إلى أصفهان، وهي بيد أخيه غياث الدين، وقد تقدمت أخباره فملكها، وسار عنها إلى بلاد فارس، وكان أخوه قد استولى على بعضها، كما ذكرناه، فأعاد ما كان أخوه أخذه منها إلى أتابك سعد صاحبها، وصالحه، وسار من عنده إلى خوزستان، فحصر مدينة تستر في المحرم وبها الأمير مظفر الدين المعروف بوجه السبع، مملوك الخليفة الناصر لدين الله، حافظاً لها، وأميراً عليها، فحصره جلال الدين، وضيق عليه، فحفظها وجه السبع، وبالغ في الحفظ والاحتياط، وتفرق الخوارزمية ينهبون، حتى وصلوا إلى بادرايا وباكسايا وغيرهما، وانحدر بعضهم إلى ناحية البصرة، فنهبوا هنالك، فسار إليهم شحنة البصرة، وهو الأمير ملتكين، فسار إليهم فأوقع بهم، وقتل منهم جماعة، فدام الحصار نحو شهرين، ثم رحل عنها بغتة.
وكانت عساكر الخليفة، مع مملوكه جمال الدين قشتمر، بالقرب منه، فلما رحل جلال الدين لم يقدر العسكر على منعه، فسار إلى أن وصل إلى بعقوبا، وهي قرية مشهورة بطريق خراسان، بينها وبين بغداد نحو سبعة فراسخ، فلما وصل الخبر إلى بغداد تجهزوا للحصار، وأصلحوا السلاح من الجروخ، والقسي والنشاب، والنفط، وغير ذلك، وعاد عسكر الخليفة إلى بغداد.
وأما عسكر جلال الدين فنهب البلاد وأهلكها، وكان قد وصل هو وعسكره إلى خوزستان في ضر شديد وجهد جهيد، وقلة من الدواب، والذي معهم فهو من الضعف فهو من الضعف إلى حد لا ينتفع به، فغنموا من البلاد جميعها، واستغنوا، وأكثروا من أخذ الخيل والبغال، فإنهم كانوا في غاية الحاجة إليها.
وسار من بعقوبا إلى دقوقا فحصرها، فصعد أهلها إلى السور وقاتلوه، وسبوه، وأكثروا من التكبير، فعظم ذلك عنده، وشق عليه، وجد في قتالهم، ففتحها عنوة وقهراً، ونهبتها عساكره، وقتلوا كثيراً من أهلها، فهرب من سلم منهم من القتل وتفرقوا في البلاد.
ولما كان الخوارزميون على دقوقا سارت سرية منهم إلى البت والراذان، فهرب أهلها إلى تكريت، فتبعهم الخوارزمية، فجرى بينهم وبين عسكر تكريت وقعة شديدة، فعادوا إلى العسكر.
ولقد رأيت بعض أعيان أهل دقوقا وهم بنو يعلى، وهم أغنياء، فنهبوا، وسلم أحدهم، ومعه ولدان له، وشيء يسير من المال، فسير ما سلم معه إلى الشام مع الولدين ليتجر بما ينفعون به وينفقونه على نفوسهم، فمات أحد الولدين بدمشق، واحتاط الحاكم على ما معهم، فلقد رأيت أباهم على حالة شديدة لا يعلمها إلا الله، يقول: أخذت الأموال والأملاك، وقتل بعض الأهل، وفارق من سلم منهم الوطن بهذا القدر الحقير، أردنا أن نكف به وجوهنا من السؤال، ونصون أنفسنا، فقد ذهب الولد والمال.
ثم سار إلى دمشق ليأخذ ما سلم مع ابنه الآخر، فأخذه وعاد إلى الموصل، فلم يبق غير شهر حتى توفي؛ إن الشقي بكل حبل يخنق.
وأما جلال الدين فإنه لما فعل بأهل دقوقا ما فعل خافه أهل البوازيج، وهي لصاحب الموصل، فأرسلوا إليه يطلبون منه إرسال شحنة إليهم يحميهم، وبذلوا له شيئاً من المال، فأجابهم إلى ذلك، وسير إليهم من يحميهم، قيل: كان بعض أولاد جنكزخان، مل التتر، أسره جلال الدين في بعض حروبه مع التتر، فأكرمه، فحماهم، وأقام بمكانه إلى أواخر ربيع الآخر، والرسل مترددة بينه وبين مظفر الدين، صاحب إربل، فاصطلحوا، فسار جلال الدين إلى أذربيجان، وفي مدة مقام جلال الدين بخوزستان والعراق ثارت العرب في البلاد يقطعون الطريق، وينهبون القرى، ويخيفون السبيل، فنال الخلق منهم أذى شديد، وأخذوا في طريق العراق قفلين عظيمين كانا سائرين إلى الموصل، فلم يسلم منهما شيء البتة.

.ذكر وفاة الملك الأفضل وغيره من الملوك:

في هذه السنة، في صفر، توفي الملك الأفضل علي بن صلاح الدين يوسف ابن أيوب فجأة بقلعة سميساط، وكان عمره نحو سبع وخمسين سنة، وقد ذكرنا سنة تسع وثمانين وخمسمائة عند وفاة والده، رحمه الله، ملكه مدينة دمشق والبيت المقدس، وغيرهما من الشام، وذكرنا سنة اثنتين وتسعين أخذ الجميع منه، ثم ذكرنا سنة خمس وتسعين ملكه ديار مصر، وذكرنا سنة ست وتسعين أخذها منه، وانتقل إلى سميساط وأقام بها، ولم يزل بها إلى الآن، فتوفي بها.
وكان رحمه الله، من محاسن الزمان، لم يكن في الملوك مثله، كان خيراً عادلاً فاضلاً حليماً كريماً قل أن عاقب على ذنب، ولم يمنع طالباً، وكان يكتب خطاً حسناً، وكتابة جيدة، وبالجملة، فاجتمع فيه من الفضائل والمناقب ما تفرق في كثير من الملوك، لا جرم حرم الملك والدنيا، وعاداه الدهر، ومات بموته كل فعل جليل، فرحمه الله ورضي عنه.
ورأيت من كتابته أشياء حسنة، فما بقي على خاطري منها أنه كتب إلى بعض أصحابه، لما أخذت دمشق منه، كتاباً من فصوله: وأما أصحابنا بدمشق فلا علم لي بأحد منهم، وسبب ذلك أني:
أي صديق سألت عنه، ففي الذ ** ل وتحت الخمول في الوطن

وأي ضد سألت حالته ** سمعت ما لا تحبه أذني

فتركت السؤال عنهم؛ وهذا غاية الجودة في الاعتذار عن ترك السؤال والصاحب.
ولما مات اختلف أولاده وعمهم قطب الدين موسى، ولم يقو أحد منهم على الباقين ليستبد بالأمر. ومات في هذه السنة صاحب أرزن الروم، وهو مغيث الدين طغرل بن قلج أرسلان، وهو الذي سير ولده إلى الكرج، وتنصر وتزوج ملكة الكرج؛ ولما مات ملك بعده ابنه.
ومات فيها ملك أرزنكان.
وتوفي فيها عز الدين الخضر بن إبراهيم بن أبي بكر بن قرا أرسلان بن داود أبن سقمان، صاحب خرت برت، وملك بعده ابنه نور الدين أرتق شاه، وكان المدبر لدولته ولدولته ودولة والده معين الدين بدر بن عبد الرحمن البغدادي الأصل الموصلي المنشإ.

.ذكر خلع شروان شاه وظفر المسلمين بالكرج:

في هذه السنة ثار على شروان شاه ولده فنزعه من الملك، وأخرجه من البلاد، وملك بعده.
وسبب ذلك أن شروان شاه كان سيء السيرة، كثير الفساد والظلم، يتعرض لأموال الرعايا وأملاكهم؛ وقيل أيضاً: إنه كان يتعرض للنساء والولدان، فاشتدت وطأته على الناس، فاتفق بعض العسكر مع ولده، وأخرجوا أباه من البلاد، وملك الابن، وأحسن السيرة، فأحبه العساكر والرعية، وأرسل الولد إلى أبيه يقول له: إني أردت أن أتركك في بعض القلاع وأجري لك الجرايات الكثيرة، ولكل من تحب أن يكون عندك، والذين حملني على ما فعلت معك سوء سيرتك وظلمك لأهل البلاد، وكراهيتهم لك ولدولتك.
فلما رأى الأب ذلك سار إلى الكرج واستنصر بهم، وقرر معهم أن يرسلوا معه عسكراً يعيدونه إلى ملكه، ويعطيهم نصف البلاد، فسيروا معه عسكراً كثيراً، فسار حتى قارب مدينة شروان، فجمع ولده العسكر، وأعلمهم الحال، وقال: إن الكرج متى حصرونا ربما ظفروا بنا، وحينئذ لا يبقي أبي على أحد منا، ويأخذ الكرج نصف البلاد، وربما أخذوا الجميع، وهذا أمر عظيم، والرأي أننا نسير إليهم جريدة ونلقاهم، فإن ظفرنا بهم فالحمد لله، وإن ظفروا بنا فالحصر بين أيدينا؛ فأجابوه إلى ذلك.
فخرج في عسكره، وهم قليل، نحو ألف فارس، ولقوا الكرج وهم في ثلاثة آلاف مقاتل، فالتقوا واقتتلوا، وصبر أهل شروان، فانهزم الكرج، فقتل كثير منهم، وأسر كثير، ومن سلم عاد بأسوإ حال، وشروان شاه المخلوع معهم، فقال له مقدمو الكرج: إننا لم نلق بسببك خيراً، ولا نؤاخذك بما كن منك، فلا تقم ببلادنا؛ ففارقهم وبقي متردداً لا يأوي إلى أحد، واستقر ولده في الملك وأحسن إلى الجند والرعية، وأعاد إلى الناس أملاكهم ومصارداتهم، فاغتبطوا بولايته.

.ذكر ظفر المسلمين بالكرج أيضاً:

وفي هذه السنة أيضاً سار جمع من الكرج من تفليس يقصدون أذربيجان والبلاد التي بيد أوزبك، فنزلوا وراء مضيق في الجبال لا يسلك إلا للفارس بعد الفارس، فنزلوا آمنين من المسلمين استضعافاً لهم، واغتراراً بحصانة موضعهم، وأنه لا طريق إليهم.
وركب طائفة من العساكر الإسلامية وقصدوا الكرج، فوصلوا إلى ذلك المضيق، فجاوزوه مخاطرين، فلم يشعر الكرج إلا وقد غشيهم المسلمون ووضعوا فيهم السيف فقتلوهم كيف شاؤوا، وولى الباقون منهزمين لا يلوي والد على ولده، ولا أخ على أخيه، وأسر منهم جمع كثير صالح، فعظم الأمر عليهم، وعزموا على الأخذ بثأرهم، والجد في قصد أذربيجان واستئصال المسلمين منه، وأخذوا يتجهزون على قدر عزمهم.
فبينما هم في ذلك إذ وصل إليهم الخبر بوصول جلال الدين بن خوارزم شاه إلى مراغة، على ما نذكره إن شاء الله، فتركوا ذلك وأرسلوا إلى أوزبك، صاحب أذربيجان، يدعونه إلى الموافقة على رد جلال الدين، وقالوا: إن لم نتفق نحن وأنت، وإلا أخذك، ثم أخذنا؛ فعاجلهم جلال الدين قبل اتفاقهم واجتماعهم، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر ملك جلال الدين أذربيجان:

في هذه السنة استولى جلال الدين على أذربيجان؛ وسبب ذلك أنه لما سار من دقوقا، كما ذكرناه، قصد مراغة فملكها وأقام بها، وشرع في عمارة البلد، فاستحسنه؛ فلما وصل إليها أتاه الخبر أن الأمير إيغان طائيس، وهو خال أخيه غياث الدين، قد قصد همذان قبل وصول جلال الدين بيومين.
وكان إيغان طائيسي هذا قد جمع عسكراً كثيراً يبلغون خمسة آلاف فارس. ونهب كثيراً من أذربيجان، وسار إلى البحر من بلد أران، فشتى هنالك لقلة البرد، ولما عاد إلى همذان نهب أذربيجان أيضاً مرة ثانية.
وكان سبب مسيره إلى همذان أن الخليفة الناصر لدين الله راسله وأمره بقصد همذان وأقطعه إياها وغيرها، فسار ليستولي عليها كما أمر، فلما سمع جلال الدين بذلك سار جريدة إليه، فوصل إلى إيغان طائيسي ليلاً، وكان إذا نزل جعل حول عسكره جميع ما غنموا من أذربيجان وأران من خيل، وبغال، وحمير، وبقر، وغنم. فلما وصل جلال الدين أحاط بالجميع، فلما أصبح عسكر إيغان طائيسي ورأى العسكر والجتر الذي يكون على رأس السلطان، علموا أنه جلال الدين، وبقي إيغان طائيسي وحده إلى أن أضاف إليه جلال الدين عسكراً غير عسكره، وعاد إلى مراغة، وأعجبه المقام بها.
وكان أوزبك بن البهلوان، صاحب أذربيجان وأران، قد سار من تبريز إلى كنجة خوفاً من جلال الدين، وأرسل جلال الدين إلى من في تبريز من وال وأمير ورئيس يطلب منهم ن يتردد عسكره إليهم يمتارون، فأجابوه إلى ذلك وأطاوه، فتردد العسكر إليها، وباعوا واشتورا الأقوات والكسوات وغيرها، ومدوا أيديهم إلى أموال الناس، فكان أحدهم يأخذ الشيء ويعطي الثمن ما يريد؛ فشكا بعض أهل تبريز إلى جلال الدين منهم، فأرسل إليهم شحنة يكون عندهم، وأمره أن يقيم بتبريز، ويكف أيدي الجند عن أهلها، ومن تعدى على أحد منهم صلبه.
فأقام الشحنة، ومنع الجند من التعدي على أحد من الناس، وكانت زوجة أوزبك، وهي ابنة السلطان طغرا بن أسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه، مقيمة بتبريز، وهي كانت الحاكمة في بلاد زوجها، وهو مشغول بلذاته من أكل وشرب ولعب.
ثم إن أهل تبريز شكو شكوا من الشحنة وقالوا: إنه يكلفنا أكثر من طاقتنا؛ فأمر جلال الدين أنه لا يعطى إلا ما يقمي به لا غير، فعلوا ذلك، وسار جلال الدين إلى تبريز وحصرها خمسة أيام، وقاتل أهلها قتالاً شديداً، وزحف إليها فوصل العسكر إلى السور، فأذعن أهلها بالطاعة، وأرسلوا يطلبون الأمان منه لأنه كان يذمهم، ويقول: قتلوا أصحابنا المسلمين وأرسلوا رؤوسهم إلى التتر الكفار؛ وقد تقدمت الحادثة سنة إحدى وعشرين وستمائة، فخافوا منه لذلك، فلما طلبوا الأمان ذكر لهم فعلهم بأصحاب أبيه وقتلهم، فاعتذروا بأنهم لم يفعلوا شيئاً من ذلكن وإنما فعله صاحبهم، ولم يكن لهم من القدرة ما يمنعونه، فعذرهم، وأمنهم، وطلبوا منه أن يؤمن زوجة أوزبك، ولا يعارضها في الذي لها بأذربيجان وهو مدينة خوي وغيرها من ملك ومال وغيره. فأجابهم إلى ذلك.
وملك البلد سابع عشر رجب من هذه السنة، وسير زوجة أوزبك إلى خوي، ومعها طائفة من العسكر، مع رجل كبير القدر، عظيم المنزلة، وأمرهم بخدمتها، فإذا وصلت إلى خوي عادوا عنها.
ولما رحل جلال الدين إلى تبريز أمر أن لا يمنعوا عنه أحداً من أهلها، فأتاه الناس مسلمين عليه، فلم يحجبوا عنه، وأحسن إليهم، وبث فيهم العدل، ووعدهم الإحسان والزيادة منه، وقال لهم: قد رأيتم ما فعلت بمراغة من الإحسان والعمارة بعد أن كانت خراباً، وسترون كيف أصنع معكم من العدل فيكم، وعمارة بلادكم.
وأقام إلى يوم الجمعة، فحضر الجامع، فلما خطب الخطيب ودعا للخليفة قام قائماً، ولم يزل كذلك حتى فرغ من الدعاء وجلس.
ودخل إلى كشك كان أوزبك قد عمره، وأخرج عليه من الأموال كثيراً، فهو في غاية الحسن، مشرف على البساتين، فلما طاف فيه خرج منه وقال: هذا مسكن الكسالى لا يصلح لنا. وأقام أياماً استولى فيها على غيرها من البلاد، وسير الجيوش إلى بلاد الكرج.

.ذكر انهزام الكرج من جلال الدين:

قد ذكرنا فيما تقدم من السنين ما كان الكرج يفعلونه في بلاد الإسلام: خلاط، وأذربيجان، وأران، وأرزن الروم، ودربند شروان؛ وهذه ولايات تجاور بلادهم، وما كانوا يسفكون من دماء المسلمين، وينهبون من أموالهم، ويملكون من بلادهم، والمسلمون معهم في هذه البلاد تحت الذل والخزي، كل يوم قد أغاروا عليهم وقتلوا فيهم، وقاطعوهم على ما شاؤوا من الأموال، فكنا كلما سمعنا بشيء من ذلك سألنا الله تعالى، نحن والمسلمون، في أن ييسر للإسلام والمسلمين من يحميهم وينصرهم، ويأخذ بثأرهم، فإن أوزبك، صاحب أذربيجان، منعكف على شهوة بطنه وفرجه، لا يفيق من سكره، وإن أفاق فهو مشغول بالقمار بالبيض.
وهذا ما لم يسمع بمثله أن أحداً من الملوك فعله، لا يهتدي لمصلحة، ولا يغضب لنفسه بحيث إن بلاده مأخوذة، وعساكره طماعة، ورعيته قد قهرها، وقد كان كل من أراد أن يجمع جمعاً ويتغلب على بعض البلاد فعل، كما ذكرناه من حال بغدي، وأيبك الشامي، وإيغان طائيسي، فنظر الله تعالى إلى أهل هذه البلاد المساكين بعين الرحمة؛ فرحمهم ويسر لهم جلال الدين هذا، ففعل بالكرج ما تراه، وانتقم للإسلام والمسلمين منهم فنقول: في هذه السنة كان المصاف بين جلال الدين بن خوارزم شاه وبين الكرج، في شهر شعبان، فإن جلال الدين من حين وصل إلى هذه النواحي لا يزال يقول: إنني أريد أقصد بلاد الكرج وأقاتلهم وأملك بلادهم؛ فلما ملك أذربيجان أسل إليهم يؤذنهم بالحرب، فأجابوه بأننا قد قصدنا التتر الذين فعلوا بأبيك، وهو أعظم منك ملكاً، وأكثر عسكراً، وأقوى نفساً، ما تعلمه، وأخذوا بلادكم، فلم نبال بهم، وكان قصاراهم السلامة منا.
وشرعوا يجمعون العساكر، فجمعوا ما يزيد على سبعين ألف مقاتل، فسار إليهم، فملك مدينة دوين، وهي للكرج، كانوا قد أخذوها من المسلمين، كما ذكرناه، وسار منهم إليهم، فلقوه وقاتلوه أشد قتال وأعظمه، وصبر كل منهم لصاحبه، فانهزم الكرج، وأمر أن يقتلوا بكل طريق، ولا يبقوا على أحد منهم؛ فالذي تحققناه أنه قتل منهم عشرون ألفاً، وقيل: أكثر من ذلك، فقيل: الكرج جميعهم قتلوا، وافترقوا، وأسر كثير من أعيانهم، من جملتهم شلوة، فنمت الهزيمة عليهم، ومضى إيواني منهزماً، وهو المقدم على الكرج جميعهم، ومرجعهم إليه، ومعولهم عليه، وليس لهم ملك، إنما الملك امرأة، ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة».
فلما انهزم إيواني أدركه الطلب، فصعد قلعة لهم على طريقهم، فاحتمى فيها، وجعل جلال الدين عليها من يحصرها ويمنعه من النزول، وفرق عساكره في بلاد الكرج ينهبون، ويقتلون، ويسبون، ويخربون البلاد، فلولا ما أتاه من تبريز ما أوجب عوده لملك البلاد بغير تعب ولا مشقة، لأن أهلها كانوا قد هلكوا، فهم بين قتيل وأسير وطريد.

.ذكر عود جلال الدين إلى تبريز وملكه مدينة كنجة ونكاحه زوجة أوزبك:

لما فرغ جلال الدين من هزيمة الكرج، ودخل البلاد وبث العساكر فيها، أمرهم بالمقام بها مع أخيه غياث الدين، وعاد إلى تبريز.
وسبب عوده أنه كان قد خلف وزيره شرف الملك في تبريز ليحفظ البلد، وينظر في مصالح الرعية، فبلغه عن رئيس تبريز وشمس الدين الطغرائي، وهو المقدم على كل من في البلد، وعن غيرهما من المقدمين، أنهم قد اجتمعوا، وتحالفوا على الامتناع على جلال الدين، وإعادة البلد إلى أوزبك، وقالوا: إن جلال الدين قد قصد بلاد الكرج، فإذا عصينا عليه وأحضرنا أوزبك ومن معه من العساكر، يضطر جلال الدين إلى العود، فإذا عاد تبعه الكرج فلا يقدر على المقام، ويجتمع أوزبك والكرج ويقصدونه، فينحل نظام أمره، وتتم عليه الهزيمة.
فبنوا أمرهم على أن جلال الدين يسير الهوينا إلى بلاد الكرج، ويتريث في الطريق احتياطاً منهم؛ فلما اتفقوا على ذلك أتى الخبر إلى الوزير، فأرسل إلى جلال الدين يعرفه الحال، فأتاه الخبر، وقد قارب بلاد الكرج، فلم يظهر من ذلك شيئاً، وسار نحو الكرج مجداً، فلقيهم وهزمهم، فلما فرغ منهم قال لأمراء عسكره: إنني قد بلغني من الخبر كذا وكذا، فتقيمون أنتم في البلاد على ما أنتم عليه من قتل من ظفرتم به، وتخريب ما أمكنكم من بلادهم، فإنني خفت أن أعرفكم قبل هزيمة الكرج لئلا يلحقكم وهن وخوف.
فأقاموا على حالهم، وعاد هو إلى تبريز، وقبض على الرئيس والطغرائي وغيرهما، فأما الرئيس فأمر أن يطاف به على أهل البلد، وكل من له عليه مظلمة فليأخذها منه، وكان ظالماً، ففرح الناس بذلك، ثم قتله؛ وأما الباقون فحبسوا، فلما فرغ منهم واستقام له أمر البلد تزوج زوجة أوزبك ابنة السلطان طغرل، وإنما صح له نكاحها لأنه ثبت عن أوزبك أنه حلف بطلاقها أنه لا يقتل مملوكاً له اسمه، ثم قتله، فلما وقع الطلاق بهذه اليمن نكحها جلال الدين، وأقام بتبريز مدة، وسير منها جيشاً إلى مدينة كنجة فملكوها، وفارقها أوزبك إلى قلعة كنجة فتحصن فيها.
فبلغني أن عساكر جلال الدين تعرضوا لأعمال هذه القلعة بالنهب والأخذ، فأرسل أوزبك إلى جلال الدين يشكو، ويقول: كنت لا أرضى بهذه الحال لبعض أصحابي، فأنا أسأل أن تكف الأيدي المتطرقة إلى هذه الأعمال عنها. فأرسل جلال الدين إليها من يحميها من التعرض لها من أصحابه وغيرهم.

.ذكر وفاة الخليفة الناصر لدين الله:

في هذه السنة، آخر ليلة من شهر رمضان، توفي الخليفة الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي عبد الله بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي العباس محمد بن المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة محمد بن القائم بأمر الله أبي جعفر عبد الله بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن إسحق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق أبي أحمد محمد بن جعفر المتوكل على الله، ولم يكن الموفق خليفة، وإنما كان ولي عهد أخيه المعتمد على الله، فمات قبل المعتمد، فصاروا ولده المعتضد بالله ولي عهد المعتمد على الله.
وكان المتوكل على الله ابن المعتصم بالله أبي إسحق محمد بن هرون الرشيد ابن محمد المهدي بن أبي جعفر عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنهم.
نسب كأن عليه من شمس الضحى ** نوراً، ومن فلق الصباح عمودا

فكان في آبائه أربعة عشر خليفة، وهم كل من له لقب، والباقون غير خلفاء، وكان فيهم من ولي العهد محمد بن القائم، والمرفق بن المتوكل، وأما باقي الخلفاء من بني العباس فلم يكونوا من آبائه، فكان الشفاح أبو العباس عبد الله أخا المنصور ولي قبله، وكان موسى الهادي أخا الرشيد ولي قبله؛ وكان محمد الأمين وعبد الله المأمون ابنا الرشيد أخوي المعتصم ولياً قبله، وكان محمد المنتصر بن المتوكل ولي بعده.
ثم ولي بعد المنتصر بالله المستعين بالله أبو العباس أحمد بن محمد بن المعتصم، وولي بعد المستعين المعاز بالله محمد، وقيل طلحة، وهو ابن المتوكل، وولي بعد المعتز المهتدي بالله محمد بن الواثق، ثم ولي بعده المعتمد على الله أحمد بن المتوكل، فالمنتصر، والمعتز، والمعتمد إخوة الموفق، والمهتدي ابن عمه، والموفق من أجداد الناصر لدين الله.
ثم ولي المعتضد بعد المعتمد، وولي بعد المعتضد ابنه أبو محمد علي المكتفي بالله، وهو أخو المقتدر بالله، وولي بعد المقتدر بالله أخوه القاهر بالله أبو منصور محمد بن المعتضد، وولي بعد القاهر الراضي بالله أبو العباس محمد بن المقتدر.
ثم ولي بعده المتقي لله أبو إسحق إبراهيم بن المقتدر؛ ثم ولي بعده المستكفي بالله أبو القاسم عبد الله بن المكتفي بالله علي بن المعتضد، ثم ولي بعده المطيع لله أبو بكر عبد الكريم، فالقاهر، والراضي، والمتقي، والمطيع بنوه، والمستكفي ابن أخيه المكتفي.
ثم ولي الطائع لله بن المقتدر؛ ثم ولي بعد الطائع القادر بالله، وهو من أجداد الناصر لدين الله؛ ثم ولي بعده المستظهر بالله؛ ثم ولي بعده ابنه المسترشد بالله أبو منصور، وولي بعد المسترشد بالله ابنه الراشد أبو جعفر، فالمسترشد أخو المتقي، والراشد بالله ابن أخيه، فجمع من ولي الخلافة ممن ليس في سياق نسب الناصر تسعة عشر خليفة.
وكانت أم الناصر أم ولد، تركية، اسمها زمرد، وكانت خلافته ستاً وأربعين سنة وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يوماً، وكان عمره نحو سبعين سنة تقريباً، فلم يل الخلافة أطول مدة منه إلا ما قيل عن المستنصر بالله العلوي، صاحب مصر، فإنه ولي ستين سنة، ولا اعتبار به، فإنه ولي وله سبع سنين فلا تصح ولايته.
وبقي الناصر لدين الله ثلاث سنين عاطلاً عن الحركة بالكلية، وقد ذهبت إحدى عينيه والأخرى يبصر بها إبصاراً ضعيفاً، وفي آخر الأمر أصابه دوسنطاريا عشرين يوماً ومات.
ووزر له عدة وزراء، وقد تقدم ذكرهم، ولم يطلق في طول مرضه شيئاً كان أحدثه من الرسوم الجائرة؛ وكان قبيح السيرة في رعيته، ظالماً، فخرب في أيامه العراق، وتفرق أهله في البلاد، وأخذ أملاكهم وأموالهم، وكان يفعل الشيء وصده، فمن ذلك أنه عمل دور الضيافة ببغداد ليفطر الناس عليها في رمضان، فبقيت مدة، ثم قطع ذلك، ثم عمل دور الضيافة للحجاج، فبقيت مدة، ثم بطلها، وأطلق بعض المكوس التي جددها ببغداد خاصة، ثم أعادها. وجعل جل همه في رمي البندق، والطيور المناسيب، وسراويلات الفتوة، فبطل الفتوة في البلاد جميعها، إلا من يلبس منه سراويل يدعى إليه، ولبس كثير من الملوك منه سراويلات الفتوة.
وكذلك أيضاً مع الطيور المناسيب لغيره إلا ما يؤخذ من طيوره، ومنع الرمي بالندق إلا من ينتمي إليه؛ فأجابه الناس بالعراق وغيره إلى ذلك إلا إنساناً واحداً يقال له ابن السفت من بغداد، فإنه هرب من العراق ولحق بالشام، فأرسل إليه يرغبه في المال الجزيل ليرمي عنه، وينسب في الرمي إليه: فلم يفعل، فبلغني أن بعض أصدقائه أنكر عليه الامتناع من أخذ المال، فقال: يكفيني فخراً أنه ليس في الدنيا أحد إلا يرمي للخليفة، إلا أنا.
فكان غرام الخليفة بهذه الأشياء من أعظم الأمور، وكان سبب ما ينسبه العجم إليه صحيحاً من أنه هو الذي أطمع التتر في البلاد، وراسلهم في ذلك، فهو الطامة الكبرى التي يصغر عندها كل ذنب.